الفقر من أصعب المشكلات والتحديات التي تواجه أي دولة، وكلما كان عدد سكان هذه الدولة أكبر، كان القضاء على الفقر مهمة صعبة، يراها البعض مستحيلة. وفي عصرنا الحديث، لم يعد عدد السكان يشكل مشكلة للحكومات بشرط واحد فقط؛ أن تستثمر في هذه القوى البشرية وتوظفهم بالشكل المناسب الذي يمكنك من الاستفادة من طاقاتهم وإبداعاتهم ونتاج علمهم وعملهم، وحينها ستصبح هذه القوى البشرية أكبر ما يميز هذه الدول ويدعم اقتصادها. في هذا العالم تجارب عديدة تحاكي هذه النظرية وتطبقها على أرض الواقع، ولعل أبرزها تجربتا الصين والهند، ودعونا نتطرّق إلى التجربة الصينية والتي تعتبر نموذجاً في كيفية إدارة القوى البشرية، وتمكينها لتصبح قوة اقتصادية عملاقة بتوظيف الأيدي العاملة في عملية الإنتاج في كافة القطاعات والصناعات. قبل أيام، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الصين قد تخلصت من الفقر بشكل كامل، وذلك بعد استكمال الخطة الصينية لإنقاذ ما يقارب 100 مليون شخص من الفقر خلال 7 سنوات بدأت عام 2013، وذلك عن طريق تمكين الريف والريفيين وتحسين مستوى حياتهم، وانتشالهم من تحت خط الفقر. وهذه التجربة هي من أحاول الإحاطة بها والتي ربما تكون مفيدة للعديد من بلداننا العربية، وخصوصاً من لديها تعداد سكاني كبير. الصين لم تُعَرّف خط الفقر بناء على معايير نموذجية، بل عرفته على معايير يمكن قياسها، ولم تضع في حساباتها أن يمتلك كل صيني أفخم السيارات ويعيش حياة الرفاهية ليكون خارج دائرة الفقر، ولم تضع نفس المعايير لشمال وجنوب الصين، بل وضعت معاييرها حسب كل منطقة وكل طبيعة وكل خواص، سواء جغرافية أو سكانية. وهذا يمكننا من أن نضع أيدينا على ما ينقص بعض بلداننا في خططها للتخلص من الفقر، فمثل هذه المهمة الصعبة، تتطلب وضع معايير واقعية قابلة للتطبيق، وأيضاً تتطلب دراسة كل منطقة على حدة وبحث إمكانية تطوير هذه المناطق واستثمار ما يميزها، وهذا بالفعل ما مكّن الصين من تحقيق هدفها، وهذا ما نريده لتحقيق أهدافنا. التحول من الزراعة للصناعة كان قفزة الصين لإنقاذ شعبها من شبح الفقر والموت، ففي الستينيات من القرن الماضي كان الصينيون يموتون جوعاً على الطرقات. وعندما حولت الصين وجهتها من الزراعة للصناعة والتجارة انقلبت الآية داخل الصين، وهذا التحول فيه الكثير من الدروس التي يمكن الاستفادة منها، فنحن اليوم نعيش في عالم متغير وسريع التحول. والاعتماد على أدوات تقليدية في إنعاش الاقتصاد بات هو المشكلة ولم يعد حلاً كما كان في بعض التجارب القديمة، واليوم باتت الأرباح الطائلة تذهب لهويات ومسميات مستحدثة وجديدة، فحتى حبة التفاح، أصبحت رمزاً للتكنولوجيا. ولم تعد ترمز لثمرة تقطفها، ولهذا يجب أن نطور بلداننا بما يلزم العصر من قطاعات هجينة بدأت تنمو ويصبح لها تأثير في الاقتصاد العالمي، فالصين وجدت أن الزراعة لن تسد جوع الصينيين، لكن الصناعة ستنفع، وهذا ما نريده، وهو أن نتخلى عما لا ينفعنا، ونركز على ما ينفعنا. التجربة الصينية في مكافحة الفقر تجربة سهلة قابلة للتطبيق في أي مكان، فهي لا تتطلب أن يصل الفرد لدرجات فاحشة من الغنى، ولكن تعتمد على زيادة نسبة الطبقة الوسطى، وهي الطبقة التي تجعل المجتمع مستقراً، أناس بسطاء يتمتعون في أوقات من حياتهم ويتعبون في أوقات أخرى، يكافحون ليجدوا لقمة العيش ويجدونها، لديهم فرصة للرفاهية. لكن بشكل معقول، هذه الطبقة إن اختفت اختل الميزان المجتمعي، ولهذا من الجيد أن نضع خططنا للقضاء على الفقر وحماية شعوبنا العربية من الفقر المدقع، ولكن الأهم أن تكون خططنا قابلة للتطبيق. الصين نجحت في مهمتها لأنها اهتمت بالتعليم، وربما يذهب في ذهن البعض أن التعليم مقتصر على الشهادات الجامعية، ولكن التعليم الذي عرفته الصين هي أن تعلم الإنسان كيف يكسب قوت يومه، ولهذا وجدنا أن هناك زيادة في التعليم المهني والحرفي. وهذا كل ما ينقص بعض بلداننا التي تمتلك العقول والأيدي العاملة والموارد الطبيعية، وينقصها الموارد البشرية المتعلمة لتحول المنتوجات الزراعية لأغلى السلع، وتحول الفكرة لأكبر الشركات، حينها سنتخلص من الفقر الحقيقي الذي تعاني منه بعض بلداننا؛ الفقر المعرفي الذي هو الأساس والسبب لمعظم مشكلاتنا.