بعد أن ظهرت لنا منصات التواصل الاجتماعي الإلكترونية الحديثة، ظهرت معها حالة أجدها غريبة، وأقصد هنا بالغريبة طريقة معاملة المتابعين لمشاهير هذه المنصات، فتجدهم يركضون وراءهم للتقرب منهم والتعرف إليهم وإلى تفاصيل حياتهم، ويلاحقونهم في تحركاتهم، ويتهافتون لاستقبالهم والتعاقد معهم ليكونوا وجوهاً لفعاليات عدة، ليتحول فجأة هؤلاء المشاهير إلى مستجدين يتحدّون متابعيهم أو بعضهم البعض عبر البث المباشر ليتكسبوا من الهدايا والعطايا التي اخترعتها تلك المنصات كنوع من أنواع التشجيع الذي يقدمه هؤلاء المتابعين لمشاهيرهم ومعجبيهم، وبهذا التغيير تحول هؤلاء الرواد أنفسهم وتحولت توجهاتهم وطريقة تعاملاتهم مع متابعيهم، ليصبحوا كما لو كانوا متسولين أو بائعي هوى يعرضون أنفسهم من أجل الهدايا والعطايا. وأنا عندما أتحدث عن التغيير هنا، لا أقصر الأمر فقط على المشاهير من أصحاب ملايين المتابعين، بل أقصد أيضاً أشخاصاً مغمورين لا يملكون العشرات من المتابعين يتنافسون فيما بينهم عن طريق ألعاب وتحديات من أجل نيل إعجاب من يشاهدونهم عبر المنصات ويتكسبون هم أيضاً الهدايا. وفي بعض الأحيان، تجد هؤلاء يتنافسون ويتزاحمون مع من هم مشاهير حقيقيون ليضعوا أنفسهم في تحدياتٍ مباشرة معهم، والغريب أن الكل يرضخ ويوافق على الإقدام على مثل تلك الأعمال، رغم أن فيها ما يقلل من قيمة الشخص وقامته، ولكن كل هذا يهون أمام الأسود. ولمن لا يعرف الأسود، فهي إحدى أشهر أنواع الهدايا على هذه المنصات، والتي تعادل في قيمتها ما يقارب 320 دولاراً أميركياً يقدمها المتابعون لمشاهيرهم وعارضيهم، وتلك الأموال وسهولة الحصول عليها جعلت الكثير من الأشخاص يفتحون بثاً مباشراً من أجل عرض أجسادهم أو الحديث عن أمور خادشة للحياء وغير مقبولة بمجتمعاتنا العربية ليثيروا حماس من خلف الشاشات يستجدونهم ويحثونهم على تقديم هذه الأنواع من الهدايا. أصبح التنافس في وسائل التواصل غريباً وعجيباً، وبات الأغلبية العظمى يتهافتون لتقديم محتوى غير رزين أو رصين، مجرد رقصات أو استعراضات أو تمثيل فيديو كليبات لأغانٍ وموسيقى أو بعض الجمل غير اللائقة، وكل هذا من أجل تجميع «شلة» من المتابعين ممن هم على استعداد لتقديم الهدايا، وفي المقابل نجد بأن هناك فعلاً من يقوم بدعم هؤلاء ويقدم لهم المال. ومن الجدير بالذكر أن تلك الفئة أدعى للاستغراب، فلو ذهبت لأحد دور السينما أو المسرح، وشاهدت فرقاً بأكملها تقدم لك عروضاً موسيقية أو تمثيلية، أو تقدم لك متعة بصرية أو سمعية من نوعٍ ما، فلن تُكلفك التذكرة إلا مبلغا زهيداً أو بسيطاً، وأنت هاهنا في المقابل تجلس في منزلك وتشاهد عبر هذه المنصات أناساً يقدمون محتوياتٍ لا يمكن اعتبارها بأي شكل من الأشكال أعمالاً فنيةً أو حتى دردشة ذات قيمة، بل عبارة عن استعراضات مخلة وغير هادفة ولا تليق أو تستحق أن يُدفَع من أجلها درهم واحد. نحن اليوم أمام وسائل أصبح فيها المتابع ليس رقماً يقاس من خلاله عدد المعجبين بصانع محتوى أو رائد لمنصة تواصل، بل أصبح مانحاً و«دفّيعاً» كما يراه ويصفه أصحاب البث المباشر على تلك المواقع، وبهذا تغيرت المعايير وانحدرت القيّم، فكلما كانت المنافسة ساخنة في الألعاب والتحديات وعُرِضَ بها ما لا يصح عرضه، كانت المنح والهدايا أكبر وقيّمة أكثر، وكلما كان نجم هذه المنصات قادراً على استجداء متابعيه وحثهم على التنازل عن أموالهم مقابل ألاعيبه وعروضه وكلامه ومسخرته وسخريته، كان أنجح واكتسب المزيد من الأموال. وفي الحقيقة أنا أجد أن كل هذا ما هو إلا نوع جديد أصبحت فيه الغالبية العظمى من بائعي الهوى – كما قلتها سابقاً – يبيعون أجسادهم وعقولهم وأفكار فنهم وأصواتهم ومواهبهم المدمرة من أجل الحصول على إعجاب ودعم متابعيهم أو بالأحرى أموالهم، وحيا الله الأسود.