نعم صديقي الكلب، فبغض النظر عن جواز نعت الإنسان بصفة، إلا أن ذلك دارج في اللغة وفي التعبير، فالشعراء يفعلون سواء في مدحهم أو هجائهم، ولكن دعوني مع المديح لكي لا يقال إن الهجو معاقب عليه قانوناً، فقد كان يصف بعضهم الشجاعة بالأسد والليث، والجمال للفتاة بالفرس والغزال وعين المها، وكذلك وصف أحد الشعراء أحد الأمراء فقال له: «أنت كالكلب في حفاظك للود، وكالتيس في قراع الخطوب، أنت كالدلو لا عدمناك دلواً، من كبار الدلا كثير الذَنوب»، ولم يؤاخذه الأمير لأنه علم أن هذا الشاعر هو ابن بيئته وينقل من معرفته، المهم كي لا أطيل عليكم فقد وددت أن أشارككم معلومة قديمة في ذهني، لكنها ليست مربط فرسي ولا مقصد مقالي لأنني هنا أتحدث عن صديقي الكلب «جاك». نعم إنه فعلاً وليس من جنس بني آدم، وإليكم قصتي معه وما استفدته منه، أولاً دعوني أخبركم بسر عن، وهو أنني من أكثر الناس رعباً من الكلاب، لا أعلم لماذا صراحة! خاصة أنني لم أتعرض في حياتي لموقف مع شرس والحمد لله، لكن ربما تربيتنا الدينية التي كان يحذرنا بها والدانا – رحمهما الله – من الكلب ونجاسته خلقت لديّ هاجساً مخيفاً من الكلاب عموماً، حتى من «التشيواوا»، هذا الكلب الصغير الذي يشبه اللعبة، وأكثر ما جعلني أستشعر الرعب عندما سافرت أول مرة إلى أوروبا قبل ما يزيد على 35 عاماً، فكانت الكلاب تسرح وتمرح في الحدائق متروكة، وكانت أولاد ناس صراحة، محترمة تجري وتلعب لكنها لا تأتي صوبك أبداً، وكنت أظن أن دعائي ورجائي هو الذي كان يبعدها عني، فقد علمني أحدهم من قبل أن أقرأ سورة «قريش» لإيلاف قريش؛ لأنها أمان من شر الكلاب واقترابهم مني. وشاءت الظروف في أكثر من مرة، خلال سفراتي اللاحقة، أن أوجد مع بعض الكلاب ولكنني كنت أنتصر عليها، فقد هممت مرة بدخول «سوبرماركت» وإذا بكلب صغير جميل مربوط أمام باب المحل فتجنبته ولففت بعيداً عنه لكي أتمكن من الدخول، وإذا به وكأنه يشتم رائحة خوفي منه فجلس ينبح نباحاً أعلى وأكبر من حجمه، لقد أرعبني حقيقة وكانت بيدي أكياس أحمل بها أمتعتي، فأوروبا كان من عهدها القديم بيع الأكياس البلاستيكية وليس من سنة فقط، ونحن عندما نسافر هناك لا نعترض ونقول إنها حضارة، وعندما تطبق عندنا نمتعض ونزعل، دعوني من التفرعات ونبهوني لكي لا أخرج عن صلب الموضوع، المهم حاولت ضرب الكلب بهذه الأكياس وأهش عليه بها وكأنه ذبابة وليس كلباً له قيمته وقدره وصوته العالي، وبعدها شعرت بأنني أصبحت محل سخرية بعضهم ممن كانوا يهمّون بدخول «السوبرماركت» أو داخل المحل بالفعل، وما أدري أكان ذلك حقيقة أم أنني ظننت ذلك من كم الإحراج الذي وضعت فيه. على كل دعوني أخبركم عن «جاك» صديقي، هو فعلاً ملك أحد أصدقائي الأعزاء «المهندس سليمان» الذي استضافني عنده في فيلته الجميلة أياماً جميلة أيضاً، وقد صدمت وصعقت عند وصولي إلى بيته في القاهرة عندما وجدت عنده في البيت كلباً هو «جاك». «جاك» عندما رآني أخذ ينبح ويحاول أن يشتمني، وكنت رافضاً ذلك تماماً وقررت حينها أن أقضي يومي الأول مع صديقي ثم أغادر غير آسف على الموقف الذي وضعت فيه، فأنا من عشاق الفنادق في السفر وفي الحضر، لكنني لم أرغب في أن أرد دعوة رجل كريم هذه المرة، وقمت في الصباح وكلي حذر، أين جاك؟ هل هو داخل الفيلّا أم خارجها؟ هل هو مربوط أم «مفلوت؟». وبالفعل فقد كان «جاك» خارج الفيلّا، وبعد أن تناولنا الإفطار سوياً، قال لي صديقي: «أنا سوف أحملك على أن تحب الكلاب»، وهنا تكابرت على خوفي وانتظرت «جاك» ليأتي ويسلم عليّ، والتصق بي ومسحت على رأسه وكلي حذر، رغم أنني غسلت يدي بعدها بالصابون لمرات عديدة. ويوماً تلو الآخر، أصبحت أنا و«جاك» صديقين بمعنى الكلمة، ففي كل صباح أصبح عليه، وبعد أن أتناول إفطاري يجلس هو إلى جانبي وأجري له بعض التدليك لمدة دقيقة أو اثنتين، وهكذا فقط، «جاك» لم ينس هذا الجدول اليومي البسيط، فقد تعود أن يجلس إلى جانبي كل صباح منتظراً مني هذا العمل البسيط، ولكنه في المقابل كان يريد أن يقدم لي الكثير، فكان يقف أمامي متأهباً كلما دخل أحد العمال إلى الفيلّا أو حتى أي من الضيوف ليحميني منهم، كان يأتي ليودعني قبل خروجي من المنزل كل مرة، ويأتي ليستقبلني إن رجعت. على فكرة لم أكن أطعم جاك أي شيء لكي نقول إنه يستغلني أو يريد مني شيئاً، فقط بيني وبينه الاحترام والتدليك لمدة دقيقتين على أبعد تقدير. لقد سافرت وتركت «جاك»، ومن يومين فقط حلمت به يأتي وفي كتفه اليسرى نتأة تؤلمه ويريدني أن أدلكها، فاتصلت بصاحبي المهندس سليمان، وسألته عن «جاك»، فقال إنه يشتكي ألماً في كتفه اليسرى، فطلبت منه أن يقسم على ذلك، فأقسم بالله على صحة هذا الأمر، وقد استغربت من قوة اتصال روح هذا الكلب بصديقه الذي هو «أنا» ليعلمني بعلته وألمه، وأخبرت المهندس سليمان، أنه جاءني في المنام فليستعجل بعلاجه، وآمنت بأن الكلب «جاك» أكرم من كثير من الناس لم يُجدِ معهم الإحسان الذي قدمته إليهم طوال حياتي ونسوني. على فكرة «جاك» من فئة الكلاب البوليسية «جيرمن شوبر»، يعني صديقي ليس بشخصية عادية، فشكراً لك يا «جاك».