العمل شرف، والمهنة – أيّاً كانت – قيمة تُقاس بجدها وإخلاص صاحبها، لا بمظهرها، فإذا كان الرعيل الأول من المواطنين بدأ حياته في وظائف بسيطة، مثل سائق،

وحارس في مدرسة أو دائرة حكومية، فلماذا يستنكف البعض اليوم عن مثل هذه المهن، رغم أن جوهرها شريف ولا عيب فيه؟
هنا يأتي دور الثقافة والإعلام والتدريب المهني، لتصحيح الصورة، وإعادة الاعتبار لكل مهنة عبر مسار التلمذة المهنية، وثمة أمثلة كثيرة على ذلك، ففي ألمانيا، مثلاً، أسسوا «النظام المزدوج» الذي يزاوج بين الدراسة النظرية في المدرسة والتدريب العملي في الشركات، فأصبح مسار التلمذة المهنية رمزاً للجدية ومصدر فخر، وأسهم في خفض بطالة الشباب، وفي سويسرا، يختار أكثر من ثلثي الطلبة مسار التدريب المهني بعد التعليم الإلزامي، ويُنظر إليه كبوابة مشرّفة للعمل أو لمتابعة التعليم العالي، أما في النمسا، فالنسبة الأعلى من خريجي التلمذة يلتحقون مباشرة بوظائف مستقرة، ما يجعل المهارة رأس مال حقيقياً.

وفي آسيا نجحت سنغافورة، عبر «سكيلزفيوتشر»، في جعل الحِرف خياراً استراتيجياً لا اضطراراً، حيث ارتفعت دخول خريجي المعاهد التطبيقية، وفي كوريا الجنوبية، أنشأوا «مدارس المايستر» لإعداد خبراء تقنيين، وبلغت نسب توظيف خريجيها أكثر من 90%، ما يؤكد أن الاعتراف بالمهن ليس ترفاً، بل ضرورة اقتصادية.

فكيف يمكننا تكرار هذه النجاحات محلياً؟ أولاً: يجب أن تحوي المناهج الدراسية من الصفوف الابتدائية إلى المراحل الثانوية قصصاً واقعية عن مواطنين يعملون سائقين أو ميكانيكيين أو طباخين أو مزارعين، لا بوصفهم نماذج ثانوية، بل قدوات فاعلة، ثانياً: أن ينعكس هذا في الإعلام عبر مسلسلات ووثائقيات وبرامج تحكي سيرة العامل المواطن بكرامة وفخر، ثالثاً: إطلاق مسارات «تعلّم-عمل» تضمن تدريباً حقيقياً، تحت إشراف مؤسسي جاد، وأخيراً: إعادة صياغة الألقاب المهنية: «خبير ميكانيكا»، «شيف تنفيذي»، «فني زراعات ذكية».

ومع ترسيخ هذه المبادئ، ستتعزز مفاهيم، أبرزها أن العمل كرامة، والمهنة شرف، واليد التي تعمل يد تُبنى بها الأوطان.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Get Appointment

Feel free to contact us and we will get back to you as soon as possible