في عالم يتقدم بخطى متسارعة نحو الذكاء الاصطناعي والراحة الرقمية، لاتزال خدمة العملاء في بعض الشركات العملاقة تعيش في عصور ما قبل التقنية، ولم تكتفِ بالبقاء في الخلف، بل اخترعت لنفسها مدرسة جديدة: خدمة الاستفزاز.
تبدأ المأساة بمشكلة بسيطة: خصمٌ غير مبرر، جهاز لا يعمل كما وُصف، أو خدمة فُعّلت دون إذنك. تتصل، يرد النظام الآلي، يدور بك في حلقات مفرغة من الأرقام والخيارات، ثم بعد دقائق طويلة يظهر صوت بشري، أو هكذا يُفترض. يقول لك: «مرحباً، معك أحمد»، وإن كانت أنثى، فهي غالباً «أمل»، وكأن كل الموظفين وُحّدت أسماؤهم باتفاق سري لا نعلمه، في محاولة لطمس الشخصية واستنساخ الردود.
تشرح مشكلتك، فيرد عليك بجملة ميتة: «خلك معاي ثواني». وتبدأ رحلة التصبّر، التي تمتد من 25 إلى 45 دقيقة، بلا نتيجة. لا حل، ولا وعد، فقط صوت مملّ، وتحويلات بين أقسام، وكأنك تمرر معاناتك على بوابات لا تهتم بما خلفها.
السؤال البديهي: هل من المنطق أن يشغل موظفٌ عميلاً واحداً كل هذا الوقت؟ في معدل ثماني ساعات يومياً، لن يخدم أكثر من 12 إلى 15 عميلاً، فأين الكفاءة؟ وأين العائد؟ وهل تُراجع هذه المؤسسات العملاقة كلفة الوقت المهدر؟ أم أن فلسفتها ببساطة هي إنهاك العميل حتى ينسحب؟ وكأنها تقول له: لا وقت لنا لك، إلا إذا كنتَ عنيداً جداً!
الأسوأ أن هذه الخدمة لا تراعي فئة كبار السن، ولا من يعانون أمراضاً مزمنة، كارتفاع الضغط أو السكري. من يتعاملون بصوت ميتٍ مع رجل سبعيني لا يجيد استخدام التطبيقات، أو مع سيدة مريضة تتألم من بطء الردود، هم شركاء في زيادة آلامهم، ولو من حيث لا يشعرون. أما إن تسببت المعاملة الباردة في مضاعفة حالاتهم، فلا أحد يلتفت، ولا أحد يُحاسب.
ثم نسأل: ما الذي يضير هذه الشركات المليارية إن صدقت مع عملائها؟
ما الذي يُنقص من خزائنها إن أعادت مبلغاً خُصم بغير وجه حق؟
هل يخدش كبرياءها أن تعترف بخطأ وقع أثناء البيع أو الشحن أو التفعيل؟
الأمانة لا تُنقص الأرباح، لكنها ترفع الثقة.
المشكلة الحقيقية ليست في الخطأ، بل في طريقة التعامل معه. الموظف يُدرّب على الاعتذار لا على الإصلاح، وعلى إضاعة الوقت لا على حُسن التصرف. يتم تقييمه بعدد المكالمات التي أغلقها، لا بعدد العملاء الذين أنصفهم.
أما الحل فبسيط جداً: أن يُعاد تعريف هذه الخدمة كجسر للثقة لا كحائط لامتصاص الشكاوى.
أن تُمنح صلاحيات فورية لمن يرد على الهاتف، ويُسمح له بالحسم والتصحيح.
أن يُربط تقييم الأداء برضا العميل، لا بسرعة التخلّص منه.
وأن يكون في النظام الداخلي لكل مؤسسة نص صريح: «احترام العميل قبل خدمته».
www.ysalc.ae