خلال زياراتي المتكررة إلى إحدى الدول ذات الطابع التراثي (تركيا تحديداً)، كنت أتردد على مطعم مشهور بأكله ذي الطابع التقليدي، يُقدّم أطباقه بطريقة تحاكي المطبخ العثماني القديم. وكان ذلك يتطلب من كبير الطهاة الذي تعرفت عليه في زيارتي الأخيرة، أن يشرح آلية تقديم الطعام في الزمن السلطاني، وكيف أن الطهاة آنذاك كانوا يُعدّون الطعام ويقدمونه للناس ضمن طقوسٍ مهيبة، ممزوجة بروايات التاريخ ونكهة الحنين. وكان يُقدّم هذا الشرح وافياً باللغتين التركية والإنجليزية، بصوت ثابت، وحركات مدروسة لا تتغير.

وقد استهواني شرحه في المرة الأولى، أما في الثانية فلم أُعره اهتماماً، وفي الثالثة لم أكترث له، وفي الرابعة حسبته مملاً، وفي الخامسة تشبع قلبي بطريقته وتكراره. أما في السادسة فقد وجدت نفسي مضطراً لأن أفاتحه الحديث بعد الشرح، وأتودّد إليه ببعض المجاملة، وقد راودني سؤال وددتُ أن أطرحه، إلا أنني حمدت الله على أنني كبحت جماح فضولي، فقد أردت أن أسأله:

ألم تمل من الروتين الذي تفعله كل يوم، ربما مرتين أو أكثر؟ بالطريقة نفسها، والصوت نفسه، واللغة نفسها؟

لكنكم ستسألون: ولماذا حمدتُ الله على أنني لم أسأله؟

لأنني لو سألته، ربما زدتُ طعنة خنجر في قلبه، لأشعره بكمّ الملل الذي يمارسه من دون أن يدري.

وأنت عزيزي القارئ، لا تظن أن الروتين يسكن مطعم صاحبنا هذا فقط، بل يعيش في المكاتب، وخلف الطاولات العريضة.

هناك موظف حكومي يبدأ يومه بالطريقة ذاتها، يدخل المبنى نفسه، يُحيّي الزملاء أنفسهم، يمد يده إلى الختم ذاته، ويُوقّع الأوراق نفسها، وكأن الزمن لم يتحرّك.

يجلس أمام شاشة لا تفتح له نافذة، يراجع معاملات لا تمتلك روحاً، يكرّر دوره بتلقائية مملة، ثم يخرج ليقضي مساءه بين جدران بيته، أو مع الأصدقاء أنفسهم في المكان ذاته، يتحدثون في الموضوعات ذاتها.

وهكذا تمر السنوات حتى يصل إلى التقاعد دون أن يكون قد أسس لنفسه شيئاً يُسند حياته، أو يشغل وقته، أو يبني له شغفاً حقيقياً.

الحل؟ أن تكسر هذا الروتين بنفسك.

ابدأ بعد دوامك بعمل تحبه، ومهارة تُطوّرها، ومشروع خاص تعكف عليه.

لا تنتظر من الراتب الثابت أن يصنع لك مستقبلاً متجدداً، ولا من الجلسات المكررة أن تمنحك ذاتك.

نصيحتي: إن لم تُجدّد نفسك بيدك، سيأكلك الروتين بهدوء.

ابدأ بخطوة قبل أن تُدرك أن الروتين قاتل.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Get Appointment

Feel free to contact us and we will get back to you as soon as possible