رغم مرور مئات السنين وربما الآلاف، إلا أن بعض الأحداث المسيئة لفئة من الناس أو لشخصية تاريخية أو لملة أو لأصحاب دين أو مذهب أو حتى لصاحب فكرة أو رأي، ما زالت محفورة في التاريخ، وما زالت أجيال سبقتهم أجيال وستلحقهم أجيال يتذكرون هذه الحادثة وهذه الواقعة، وما زال بعضهم لديه شعور بالغيظ الذي قد يصل إلى حد الكراهية تجاه الفئة المسيئة رغم مرور كل هذه السنوات. إلا أن ذكراها ما زالت عالقة، ولو فتشنا كيف تناقلت هذه الأجيال وقائع الحادثة وتفاصيلها لوجدنا أنها مدونة بالقلم والورقة، وربما دونت لما يزيد على مئة عام بأقل تقدير، يعني أنه قد خالطها من شوائب النقل والتحريف ما يطمس حقيقة معالمه. فكيف سيكون المستقبل ونحن نكتب أحداثنا اليومية بخيرها وشرها بالصوت والصورة، بالفيديو من جميع الزوايا والاتجاهات؛ إساءات وجرائم وبغض وحقد وظلم وسفك دماء وحروب وقتل ودمار، نصورها ونتتبع أحداثها ونسجلها ونخزنها بكل ما أوتينا من قوة. كأننا نورث الحقد والبغضاء لأجيال المستقبل، الذين سيشاهدون ويسمعون كل جرائم البشرية اليوم كأنهم كانوا بيننا، ولكم أن تتخيلوا ماذا فعل القلم والورقة حينما نقلا الإساءة، وماذا ستكون ردة فعل أجيال المستقبل وبين أيديهم أرشيف كامل موثق بالصوت والصورة والموقع والتحليل والاستنتاجات وكل التفاصيل؟! لم تنسَ الشعوب حروباً قتلت أجدادهم قبل مئات السنين، ولم تنسَ الأديان من حاربها وقتل رجالها ويتّم أطفالها ورمل نساءها، وهم لم يشاهدوا كل هذا بأم أعينهم، بل قرأوه أو سمعوا عنه، أو حتى علمتهم إياه عائلاتهم أو مدارسهم، فكيف ستنسى أجيال اليوم من اعتدى عليها بعد أن يشاهدوا من ظلمهم يوثق ظلمه بالصوت والصورة؟! هذا يحتاج منا أن نتعمّق في دراسة هذا الأمر، ونستشعر هذا الخطر إن تمت تغذيته أو استغل لتعظيم الصراع والحث عليه مستقبلاً. الصوت والصورة لا يوثقان الأحداث فقط، بل يوثقان الجرم والإجرام، الحروب والصراعات، ولكم أن تتخيلوا حال طفل حُرم من عائلته في حرب ما، وحينما كبر وجد كل الدلائل التي تغذي حقده تجاه مرتكبي الجرائم التي دمرت حياته، فماذا ستكون ردة فعله وهو يشارك في كل يوم نشرات تذكارية للمعارك والحروب، للغارات والقنابل التي أودت بحياة أسرته ومجتمعه؟ حقده سيتولد يوماً بعد يوم، وما مثالنا هذا إلا لنتخيل معاً كيف سيكون حال مجتمع بأكمله دُمر تاريخه ونسفت أرضه وضاعت، أتوقع أن كمية الأحقاد التي ستملأ قلوب هذه الشعوب ستكون أضعافاً مضاعفةً تجاه من دمر شعبها. نحن في زمن نوثق الأحداث فنوثق معها البغضاء والأحقاد، وبذلك نخزنها لأجيال المستقبل، غير مدركين ما ستؤول إليه الأمور في المستقبل، وكيف سيتم استخدام هذا الأرشيف المملوء، من قبل محبي الحروب ومغذيها، لإعادة إحياء الصراع من جديد. إذا كانت الورقة والقلم نقلا أحقاد مئات السنين، وكانا السبب في نشوء العديد من الحروب والصراعات، فكيف سيكون الحال مع الصوت والصورة؟ هل سينقلان الأحقاد، أم لأجيال المستقبل رأي آخر في كيفية تقبل كل هذا الأمر؟ نحن بني البشر كثيراً ما نتعلق بتاريخنا، وأغلب صراعاتنا اليوم توارثناها ممن سبقونا، ولم يكن لنا فيها أي يد، فقط دخل حقدها قلوبنا ولم يخرج، عظمناه في نفوسنا، وعشنا حالته حتى أصبح سواداً في قلوبنا، فنحن وللأسف نسرع لتذكر الماضي قبل أن نفكر في كيفية صناعة المستقبل، ولهذا، كل ما نكتبه اليوم من أحداث، بحلوها ومرها، بخيرها وشرها، هو ما سيستند إليه أجيال المستقبل في تقييم ماضيهم، فحاضرنا اليوم هو تاريخهم. وصراع اليوم هو ذكرياتهم المؤلمة التي سيقيمون لها أيام الذكريات، وسيبنون من أجل توثيقها متاحف ومباني للأرشيف، وسيكتبونها في مناهجهم، وسيخطبون عنها في مساجدهم، ويدونونها في كتبهم وصحفهم ومجلاتهم، وعبر حساباتهم ومواقعهم الإلكترونية في حينها، فوجعهم وقتها هو حقد يغذى تجاه من كان السبب في وجعهم، وهنا لا أقصد دولة أو شعباً أو ديناً، إنما أقصد الجميع، فحتى الجرائم التي نوثقها في مجتمعاتنا، سيكون لها تأثيرها في المستقبل. من حاضر اليوم، من ماضي المستقبل، أقولها بملء الفم؛ دعوا الماضي للماضي، ولا تقفوا أمام مستقبلكم، فمستقبلكم هو ماضي من سيخلفكم، وحينما نتجاوز ونسامح ونتسامح ونتعايش ونتصالح، سنورث هذا التصالح ونوثقه حتى يصبح هو القيمة التي تنير حياتنا، أما إن تمسكنا بالإساءة وورثناها، فستكون هي العتمة التي تنتهي معها حياتنا. كلامي موجّه للدول والشعوب والملل والطوائف والأحزاب، فما ينطبق على الفرد ينطبق على كل هؤلاء.