عرفنا أمريكا خلال العقود الماضية أنها هي من تخترق الدول وأجهزة تلك الدول وتحاول التأثير، بشكل مباشر أو غير مباشر، في العديد من القرارات السياسية الديمقراطية وغير الديمقراطية؛ السياسية منها والاقتصادية وحتى الاجتماعية إن تطلب الأمر، فليس هناك ما يمنع؛ هذه الصورة التي عرفناها عن الولايات المتحدة. وما زالت مرسومة في مخيلتنا، لكن خلال السنوات العشر الماضية بدأت هناك تغييرات تظهر على الساحة لنجد دولاً كثيرة تعبث بالداخل الأمريكي، وتحاول التأثير على مراكز القرار في واشنطن، وربما كان هذا الأمر موجوداً حتى قبل السنوات العشر الماضية. ولكن خلال هذا العقد بدأنا نشاهد هذه الأخبار تنتشر بكثرة ما يدل على زيادة حجم التدخلات الخارجية في أمريكا، وأن أمريكا اليوم تشرب من نفس الكأس الذي أشربته للكثير من الدول. قبل أيام هاجم الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الروسي «فلاديمير بوتين» مهدداً إياه بـ«دفع ثمن» محاولات التأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020. وهذا التصريح هو تتويج لكشف المستور وما هو مخفي حول الانتخابات الأمريكية ومحاولة العبث فيها؛ فخلال السنوات الماضية شاهدنا أخباراً تقول إن هناك محاولات روسية وصينية وإيرانية للتأثير في الانتخابات الأمريكية، وشاهدنا أيضاً وصول هذه القضية للتشكيك بنتائج الانتخابات الأمريكية السابقة «2016»، لكن أن يأتي رئيس منتخب جديد ويهاجم نظيره الروسي ويصفه بأنه «قاتل». وسوف يتم محاسبته بهذا الشكل وبهذه العلانية، فهذا أمر مستغرب فعلاً، وإن دل على شيء فإنما يدل على أنه فعلاً هناك محاولات عميقة لروسيا للتدخل في الانتخابات الأمريكية، فلو كانت المحاولات سطحية . كما كنا نعرف عنها سابقاً، لما وصلت الأمور لكل هذه التطورات.أمريكا اليوم تعيش أسوأ ما عرفناه عنها، ولا أقصد في مقال اليوم أن أعرّف عزيزي القارئ بأن أمريكا تخوض معركة شرسة للمحافظة على عرشها على العالم. فالعالم بات يدرك هذه الحقيقة، ولكن ما أحاول تسليط الضوء عليه هو أن الدول التي تنافس أمريكا في مكانتها وحضورها ونفوذها، لم تعد دولاً بسيطة أو مكسورة أو مغلوبة على أمرها، بل أصبح لها وزن وثقل، وقادرة على مجاراتها واللعب معها لعبة شد الحبل بكل ثقة وقوة؛ هذا ليس رأيي إنما هي نظرة واقع. فأن تصل دولة لاختراق أجهزة أمريكا وتتدخل بانتخاباتها الداخلية، والتي كثيراً ما نعتبرها ونراها أكبر مثال للديمقراطية في العالم، وليس فقط العبث بانتخاباتها، بل باختراق أجهزتها وبنيتها التحتية، وخصوصاً الإلكترونية منها. وإن كان ذلك، فإن «الديمقراطية التي تغنينا بها طويلاً ها هي تنهار أمامنا، أمام محاولات للسيطرة عليها وكشف مستورها»، وهذا لا يهدد أمريكا فقط، بل يهدد قيمها ونموذجها الذي أرادت أن تفرضه على العالم، فكم من مرة تدخلت أمريكا في معظم دول العالم . وكان سندها وقضيتها الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح السياسي، وبعد ما عرفناه واكتشفناه، هل يحق لأمريكا أن تمارس هذا الدور بعد الآن وهي وديمقراطيتها مخترقة ويتم العبث بها من الداخل والخارج؟! في اعتقادي أن الكثير من الأمور ستتغير خلال السنوات المقبلة، وكلما ثبت لنا أن أمريكا مخترقة في مؤسساتها وأنظمتها وسياساتها وقوانينها، كلما سنقترب من محو كل ما في أذهاننا عن «أمريكا العظمى» التي سادت الأرض طيلة العقود الماضية. وكان رئيسها وانتخاباتها حديث العالم في كل يوم وفي كل لحظة، وتكاد تخلو أي نشرة أخبار من خبر يهم أمريكا وآخر أخبارها؛ كل هذا سيتغير أمام أعيننا يوماً بعد يوم فيما إذا استطاعت قوى عظمى أخرى من السيطرة على الداخل الأمريكي وتوجيهه كما تريد حتى تزيحها من عرش العالم، وتجلس هي على كرسي السيادة. لا يهمنا من يجلس على كرسي السيادة بقدر ما يهمنا النظام السائد في العالم، والذي إذا تغير الكرسي تغير النظام وتبدل، واختراق أمريكا يأخذنا لتبديل سريع في النظام العالمي، يجب أن نكون مستعدين له ونحسب عواقبه على الكثير من مناحي الحياة، خصوصاً إذا نظرنا للأمور من زاوية المصالح والصراعات، حينها سنعرف ونتعرف على قوى عظمى تحاول فرض سيطرتها على قوة العالم الأوحد. قادم الأيام ستجعلنا ندرك من الأقوى، المهاجم أم المدافع.