انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، ومجموعات الـ«واتس أب»، مشهد تمثيلي بسيط، لشاب يتصل بصاحبه، يطلب منه خدمة، كونه مسؤولاً جديداً في مكانه، وصاحبه يبدي انزعاجه وامتعاضه من كثرة طلبات هذا الشخص، ليظهر الشاب (بطل المقطع)، وهو عليه سمة التديّن، ليحدثنا كيف أن الله، عز وجل،- يُسَخّر الناس لخدمة الناس، وأنه يطلب من صديقه لأن الله سَخّره لخدمته، وخدمة تطلعاته وآماله وآمال أهله وأقاربه، الذين تمنوا أن يصل أحد أقاربهم إلى هذا المنصب، ولذلك كان من المفترض أن يقوم المسؤول بخدمتهم، لاعتقاد المتصل بأن مفهومه صحيح ولا تشوبه شائبة! نعم، لقد سخّر الله، عز وجل، الناس للناس، وهذا أمر لا جدال فيه، ولكن ليس بهذا المنطق السطحي، فلو اعتمدنا على فكر صاحبنا لخرجت الأمور عن السيطرة، ففلان سَخّره الله لتوظيف ابن فلان وعشيرته، وفلان سَخّره الله لتمرير بعض الطلبات لفلان وقبيلته، وفلان سَخّره الله ليتجاوز بعض القوانين والضوابط من أجل خاطر عيون فلان وبني جلدته، وعلى هذا المنوال سنصبح في عالم تغيب عنه قوانين تكافؤ الفرص، أو المساواة، وكأن هذا المفهوم هو نفسه مفهوم الواسطة والمحسوبية، لكنه مغلف بغلاف جميل، وبمبرر إنساني وديني. في الحقيقة، أكثر ما أستغربه هو ترويج البعض لفكرة أو أفكار مغلوطة ومرفوضة، ويحاول جاهداً إلصاقها بالدين وبشريعة الله وشرعه، لكي يكسب تأييداً لفكرته، فصاحبنا يريد من الناس أن يُسَخّروا أنفسهم والمصالح الحكومية التي يعملون فيها، أو حتى شَرِكاتهم أو المؤسسات التي يديرونها، من أجل أصدقائهم ومعارفهم وعائلاتهم، لأن هذا واجبهم، وهذا ما طلبه الله منهم، وسَخّرهم له، ولو طبقنا هذا الكلام، فإن هذه المفاهيم المغلوطة ستحوّل مجتمعاتنا إلى مجتمعات ترى في الواسطة منهجاً أراده الله لأمته، وتخيلوا معي أن شخصاً طلب من صديقه خدمة، وهو صاحب قدر ومكانة، وصديقه طلب منه أن يرد له الخدمة، حينها ستصبح شركاتنا ومؤسساتنا ودوائرنا ووزاراتنا تكية خيرية، نتبادل فيها الطلبات فيما بيننا. صحيح أن الله سَخّرنا لعباده، لكن سَخّرنا لخدمتهم، سخرنا لتسهيل أمورهم بما لا نتجاوز فيه على حقوق أناس آخرين، ولا نحرم أحداً من فرص هو أحق بها، من مبدأ تكافؤ الفرص للجميع على الأقل، ومن المُعيب أن ننسب مثل هذه المفاهيم إلى الشرع، ونطلب خدماتنا بموجبها، والغريب في الأمر أن هناك من يقتنع بهذا الكلام، دون أن يُحَكّم عقله، أو يرى الأمور من زوايا مختلفة. لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يكون هضم أو سلب حقوق أي شخص على وجه الأرض أمراً مسموحاً به في شريعة الله، عز وجل، فكيف يسخرنا الله لنهضم ونسلب وننتقص من حقوق أشخاص من أجل أقرباء وأصدقاء ومعارف وأهل المكانة والصحبة؟! وكل هذا ما هو إلا مفهوم مغلوط ومرفوض، وإن كنت تريد أن تُسَخّر نفسك للناس، فإما أن تُسَخّرها من حُر مالك، أو تُسَخّرها في تسهيل أمورهم بالحق والعدل، وعدم ظلم الآخرين. والحمد لله نحن في دولة الإمارات قد تخطينا مثل هذه المفاهيم، وفتحنا مؤسساتنا ووزاراتنا أمام مبادئ تكافؤ الفرص، وحصرنا الواسطة والمحسوبية في أماكن ضَيّقة، يصعُب الوصول إليها، في ظل أنظمة رقابية وقوانين تنظيمية، قادرة على ضبط الأمور، وقد سَخّرنا الله لنبني دولة القانون، ونحيي العدل بين الناس، هكذا يسخرنا الله، عز وجل. • الحمد لله نحن في دولة الإمارات قد تخطينا مثل هذه المفاهيم، وفتحنا مؤسساتنا ووزاراتنا أمام مبادئ تكافؤ الفرص. * محامٍ وكاتب إعلامي twitter.com/dryalsharif www.ysalc.ae