بعد أن تحدثت في مقالي السابق بعنوان «دع الخلق للخالق»، وما يتسلط به بعض البشر على بعض في وسائل التواصل الاجتماعي، رأيت من الضروري استتباع الحديث في الموضوع ذاته. ولكن هذه المرة بما نشاهده من تسلط هذه المنصات ذاتها على مستخدميها من خلال ما بتنا نشاهده من «حملات تطهير فكري أو عنصري»، سمّوها ما شئتم، على مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، فمرة يوقفون حساب هذا، أو يمنعون ذلك من الرد على منشورات أصدقائه، والأسباب كثيرة، ومرة يقولون إن صاحب الحساب قد انتهك سياسات النشر الخاصة بمواقع التواصل. وفي أخرى يكون السبب أن هناك تحريضاً على العنف، وقد تختلف الأسباب وتختلف معها مدة الحظر ونوعه وشروطه، إلا أن الفكرة واحدة، وما هذا إلا مقدمة استعراضية للدخول في صلب الموضوع وهدفه وإشكاليته. قبل فترة حدثني أحد الأصدقاء الصينيين أن حسابات أصدقائه في مواقع التواصل قد تم إغلاقها، والسبب أن هؤلاء كانوا ينشرون أخباراً وقصصاً حول الصين وأنشطتها ومشاريعها، ومثل حالهم من بعض الروس وبعض الدول التي لديها إشكاليات مع الولايات المتحدة الأمريكية، يتم إيقاف حساباتهم من دون سابق إنذار. وأيضاً ضجت وسائل التواصل قبل أيام بحملات إيقاف الحسابات لمن ينشر الأخبار والأحداث المتعلقة بالتصعيد الأخير بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبعض الأخبار تناقلت أن عديدين في روسيا، قد تم تعطيل حساباتهم بعد أن عبروا عن بعض ميولهم السياسية. وأنا لا أقصد أبداً الدفاع عن أولئك المحرضين الداعين للعنف وإثارة البلبلة في المجتمع، إلا أنني أود، والمرة الثانية، تقديم المقال قبل الدخول في موضوعه وقضيته. وسائل التواصل الاجتماعي جاءت لتدعم حرية الرأي والتعبير، وأن تسمح لمن لا صوت له بأن تكون هي صوته ومنصته، وقد فعلت، ولكن ما نراه هذه الأيام أمر غريب ينافي مبادئ هذه المنصات، ورغم أني ممن دعوا مراراً لضرورة تقنين الحريات في وسائل التواصل. ولكن أن يكون هذا الأمر بالطريقة التي هي عليه، من عنصرية ومحاباة لجهة على حساب أخرى، فهو أمر مرفوض، وإن استمرت بعض المنصات في أسلوبها، فكأنها تحفر قبرها بيدها، وخصوصاً أن هناك شعوباً وجدت في هذه الوسائل ضالتها في حرية التعبير، وعندما يغلق الباب في وجههم، سيقرأون الفاتحة على حساباتهم ويهجرونها. وسائل التواصل الاجتماعي تمارس الوصاية الفكرية على المجتمعات، وتمارس نوعاً من المحاباة السياسية لطرف على حساب الطرف الآخر، والمصيبة أن قوانينها «مطّاطة» تستطيع من خلالها أن تعاقب أي مستخدم أو شركة أو جهة بحرمانها من حساباتها بحججها الواهية لخروق سياساتها الفضفاضة، والجميع يذكر كيف أغلقت جميع حسابات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بحجة دعواته للعنف في حين أن هناك حسابات لمشاهير وسياسيين تدعو للعنف جهاراً نهاراً ولم تُغلق، وهناك حسابات تنشر العنف والإرهاب وما زالت تعمل على مدار الساعة، فهذه هي إشكاليتنا الأساسية مع هذه الوسائل، فلا يعقل أن هناك رموزاً للعنف والفتنة وما زالت حساباتهم تعمل، وحسابات بسيطة تعبر عن رأيها يتم قمعها وإغلاقها. البعض سيقول إن من حق منصات التواصل ممارسة الرقابة على المحتوى، وأنا مع هذا التوجه، ولكن يجب أن تكون السياسات موضحة ومفصلة، وأن تمارس على الجميع من دون تفرقة أو محاباة، ولكن ما نراه اليوم لا يمت للرقابة بصلة، وما هو إلا قمع للحريات وإسكات للأصوات التي تعبر عن رأيها، الأمر مرفوض تماماً، فلا يحق لوسائل التواصل أن تستمر في قبول العنف إن كان من جهة معينة. وترفضه من جهة أخرى، فعندما أرادت هذه الوسائل أن تصبح وسائل عالمية فعليها أن تحتوي العالم، لا أن تقصي من تريد، لعدم تقاطع مصالحها مع جهة وتقاطعها مع أخرى. ما أود الوصول إليه في نهاية المطاف، أن وسائل التواصل بدأت تسير نحو الهاوية في ظل تطبيقها مثل هذه السياسات العنصرية، ويوماً بعد آخر ستزداد الفجوة بين الحرية في التعبير وبين أصحابها وروادها على هذه المنصات، وحينها سنرى هجرة المستخدمين من منصة إلى منصة أخرى بحثاً عما يفتقدونه. وعلى وسائل التواصل أن تعيد حساباتها في هذا الشأن، فليس من حقها أن تمارس الوصاية على أحد، ولا يحق لها أن تمارس الحمائية والأحادية ضد أي جهة أو دولة ما لم تنتهك فعلاً سياسات النشر العامة، وفي المقابل عليها أن توحد سياساتها، فنحن في زمن الديمقراطية التكنولوجية، فلا تعيدونا سنوات إلى الوراء، مع تأكيد أن الحماية المفترضة تقررها سلطات كل دولة على أفرادها في حدود تشريعاتها القانونية المنظمة لهذه المسائل.